كــبـريــاء أنــثــى . . !
" الآن . . . أعلــنكما زوجاً و زوجــةً "
بــهذه الجمــلة ختم الكــاهن مـراسم الزفـاف ، وأخــذت الألــحان الشـعرية ترتـفع في جمــيع أركان المــذبح المقـدس .
وقــف المدعوون ومنهم من كـان يصفِّق ، ومنهم مـن سالــت دموعــه لـ حرارة هذه اللحظات التي قد لا تتكرر
في الحيــاة أبـداً . . . إلا دروسيلا !
فقــد شاحَ نظرها وراحت تحملق بعينين مكسورتين بشقيقــتها آرمينا مرتـديةً ذلــك الفســتان الأبيــض ،
وتــقف بشـموخ وكبرياء كالتمثــال أمــام الحضور ، شــابكةً يــدها بــيد ماركوس زوجــها .
لم يكــن ينـبغي أن تكون آرميــنا هنا . . في هذا المــوقع بالتــحديد ، لقــد كــان هــذا المــوقع مخصص لـ دروسيلا
منــذ سنــة ، عــندما كان ماركوس خطــيبها الهــائم بـها .
لكن الآن . . وبعـد أن غُطيت ساقاها بالــقماشة السوداء ، وأصــبح كرســيها المتــحرك " رفـيقها الذي لا يفارقها "
قد تغــير الوضع وانقلبت الموازين . . نــتيجة ذلــك المرض الذي أصابها وعلى أثره فقــدت الشــعور بســاقيها .
جيــدٌ أن ماركوس استــطاع التــعلق بطوق النجــاة وســحب نفسه بالســرعة القصوى من حياة دروسيلا ،
فماذا يريد من فــتاة أُقعدت غصباً عنها وكانــت ضحــية القــدر !
هـا هي الآن آرمــينا تغـادر صـالة الزفــاف ، ساحــبةً معها آخـر خيوط أمــل دروسيلا ، دون أن تقــدم أي اعتبــار
لشقـيقتها الكبرى . . بينما ماركوس ، الـرجل الذي يصنع من نفسه ضحـية هو الآخر ، لم يكف عن توزيع ابتساماته
يــميناً وشـمالاً ، لم يســتطِع أن ينظرَ حتى إلى عيني دروسيلا المركـونة فـي آخر الصـالة ، كالـجثة الصــامتة . .
الــتي لم يُعرف من قــاتلها بعد !
فـرغِت الصــالة ولم يبـقَ بها إلا أصداء الضــحكات الشاحــبة ، وبعضاً من كؤوس النبـيذ المـتناثرة هنا وهناك .
زاد صمـت دروسيلا مـن مـقاتة المـكان ، وكأنــها تأبى أن تخرج هي الأخرى إلا وهي مرتديةً الفسـتان الذي
تحلم به أي فـتاة في العالـم .
كم اشتهت أن تقـف دون ألم ، وأن تمتــشق باقـة الورود وترميـها إلى الوراء لتلتقطها صاحـبة الحظ .
تـلك الأحلام " الوردية " قـد ضاعت وتفكفكت بخطوات زوجـة أبــيها المــتوفي . . .
كشــرت السيـدة إيلينا عن أسنانها الصفراء قـائلة : أتـريدين أن تمكثي هنا للأبد ! ذنــبكِ هـو أنــكِ لم تحــافظي
عـلى ماركوس بسبب المرض الملــعون . . الــذكي هو من يســتغل الفرص دوماً ، وأمثــالـك انتهـى دورهـم
فـي هذه الحــياة .
تمســكت دروسيلا بكـرسيها وتشـبثت به بقـوة قـائلةً : تــقولين الحقَّ . . أمــثالـي لا يســتحقون الحيــاة يـا خالــتي .
قــفزت الســيدة إيلينا إلى وراء كـرسي دروسيلا ، وراحت تقدِّمه نحـو الأمــام بـعزم وإصــرار عـلى تقـديم
المــزيد من " التجــريح " لـروحِ دروسيلا الشــابـة .
. . . . . .
مـرتّ الأيام مسرعةً غيـر آبهـة بما يدور داخل دوامتها ، والأشهــر تتـساقط كأوراقِ شجرةً خريفية ، بـانتظار أن يحلَّ فصل الربيـع النـدي .
الأيام تدور وتتكلم . . بينما عقارب الساعة في قصـرِ دروسيلا ! . . / أو لنـقل القصـر المسروق من دروسيلا بعد
أن ذهب والدها بلا رجعة وأصبح كل شيء في يد السيـدة إيلينا / لا تدور ، وكـأن الزمان قد وقف حزينـاً لحال
تـلك الفتـاة التـي مـاتت في أحضان الحياة قبـل أن تشـعر بما يدور من حـولها حتى .
لـقد تحول القصـر من مكان يحلم بسكنه أي شخص . . إلى مجرد خرابـة بلـمسات عـتيقة ، يحــوي حـفنةً
من الأرواح الإنسـانية التي بدورها قد أصبحت مثـلها كمثــل تلك التماثيل الفضية المتبعثرة داخل أرجاء القصـر !
وكأنمـا يسكنه بعضاً من أطيـاف " الأشبـاح " ، فلا تُسمع ضحكةً أو صوتـاً يدندن بخفوت . . بـل الصـمت
ابتـلع كل شيء واستطاع استـدراك البشـر وعواطفهم بـلا شفقة أو رحمة .
إلا هذا اليـوم . . فالـيوم ومنـذ الصباح راحـت ضحكات السيـدة إيلينا تنطلق في جميع أرجاء القصر ، وأيقظت
ما كـان نائـماً لفترات طويـلة . . وهي تنفـثُ السيـجار بلـؤم وخبـاثة وتحتسـي القهـوة السـوداء فـي غـرفة
الجـلوس ، فالـيوم آخـر طريـدة لـها ستـرحلُ هـي الأخرى !
لـم تكـترث دروسـيلا بـقهقهات زوجـة أبـيها التـي تشـبّهها بـ " دغدغة وحـشٍ كان نائـماً " ، بـل استمرَّت
بتســريح شعــرهـا البـني المُجعَد ببــرودة أعصـاب قـاتلة !
ومـا إن انتهت . . حتـى توجهـت بـتحريك كرسيـها إلى خـزانتها التـي زُخرفت ببعضٍ من خـيوط العناكب ونـخر
الـسوس ، فـفتحتها وسحـبت منـها فسـتاناً أبيـض اللون . . وراحـت تلامسه وتـداعبـه وكأنـه لعبةً بـين يديـها
البـاردتين محاولـةً إيـصال مشاعرهـا إلى مجرد " قـطعة قمـاش " .
وبـابتسامةٍ بـاهتة أخـذت تستنشـق الفسـتان وتشـتمه وتضمّه بـحنان كـان " ميـّتاً " بالـماضي .
قُـرع البـاب ودخـلت خـادمة الطـابق العلـوي ، مـقاطعةً لحـظات دروسيــلا هـذه . . فـفتحت النـافذة المطلّة علـى
حديـقة القصر و وسّعت الستـائر قـائلةً : أمـرتني السيـدة إيـلينا أن أوضب غـرفتـكِ قـبل تـرحيـلك مـن هـنا .
لـكن وقع هذه الكـلمات لـم يكـن بالـصدمة على دروسـيلا أبـداً . . بـل تلـقّتها بـابتسامة خـفيفة رُسمت على شـفتيها .
تـابعت الخـادمة عمـلها بـينما دروسـيلا كـانت تُخرج صندوقـاً خشـبياً عــتيقاً من جـارورة خـزانتها ،
وهـي تنـاظره بمـشاعر متخبطة تأجـجت فـي عـينيها الواسعتين . . فـفتحته وراحـت تتأمل ما بـداخله مسـتغرقةً
في التفـكيـرِ !
. . . . . .
/ كـل شيء أصـبح كـاملاً الآن . . والـوقتُ حــان ليـلعب الـقدر لـعبته الأخـيرة ، أوراقٌ ستسـقط في غيـاهب النسـيان
وأوراق سيُلعب بـها لتسـتمر . .لـكن مصـيرها السـقوط دون أدنـى شكّ .
الزمـن أخـرسني والـقدر طعـنني فـي ظهري . . لـكن شكراً لـهما عـلى أي حـال ، لأنـهما سـاعداني عـلى إطلاق نفـسي
نحـو السـماء ومشـاركة النجـوم بضيائها . . شكـراً لكِ يا أخـتاه علـى دفـني حيةً ، وشكـراً لك يا ماركوس للـعبك الدور
بشـكل جيـد فـي مســح صــورتي عـن قـائمـة الأحيـاء ، شـكراً لـكِ يا خالــتي إيـلينا لحـبسكِ لـي في زنزانة
النسـيان والألــم . . أمــا الآن فـقد جــاء دوري لأقــول لكم كلــمتي الأخيــرة /
وضـعت دروســيلا الــقلم جانبــاً بعـد آخــر ما دونته في دفــتر مذكراتها . . وامتــشقت الصـندوق الخشبـي
وخـرجت بـه مـودعةً بطـرفات ناظـريها مـلاذها الـذي ضمّها طِوال حيـاتها . . مودعـةً جـدرانها
الخرسـاء التـي استمعت لهمساتها . . لدموعها . . لمـشاعرها حتى وإن لـم تـتلقَ رداً منـها سوى الصـمت .
وقـفت عجـلات الكـرسي المتحـرك أمـام حـافة الدرج الحجري المـؤدي إلـى أسـفل القصـر بالضـبط ،
وســرعان مـا أُفلتت العجلات منـطلقةً بالكـرسي نحـو الأسـفل . . إلـى أن تـحولَ إلـى فـتات بكـافة الأحـجام
فـي نهـاية الدرج !
. . . . . .
بـينما دروسـيلا . . كـانت واقفةًَ فـي أعـلى الـدرج بسـاقـيها اللتين ترتعشان بـشدة ، مـتغلبةً عـلى كـل شيء كـان عـائقاً
فـي وجهها . .
لـقد كـانت كـسهم المـوت منـتصبةً رافـعةً رأسـها نـحو الأفق . . مرتـديةً فـستاناً أبيـض اللون ، وعـلى رأسها " طـرحة "
العـروس ، وخُطت شفاهها باللون الأحمر الـقاتم ، وعـينيها زيـدت جمـالاً بالـكحلِ .
وراحـت تـخطو أولى خـطواتها بسـاقيها اللتين كانـتا " مضـمورتين " لـفترة طويـلة . . بـكل خطوة يهتـزُّ القصـر
خوفـاً مـنها . . مـن انطلاقتـها هـذه . . وصـوت الحذاء الزجـاجي يـضيفُ نغمـاً لطيـفاً " لسمفونية " السواد
والكـآبة فيه .
فـتحت دروسـيلا بـاب القصـر الصدئ الـعتيق ، بالــتزامن مـع أول رعـدةٍ أطـلقتها السـماء نـاذرةً بـهطول الـمطرِ .
فـكلما تقدّمت دروســيلا نـحو خـارج القصـر . . كـانت السمـاء تُرسل وابـلاً من " الرصـاص " المـطري .
فتشـعر وكأن الـسماء تــشاركها مشــاعرها . . وتضمُّ يـدها إلـى يـد دروسـيلا .
كـل شيء بـحالة أصـبح بـحالة فزع ، فالأشجار الــميتة راحـت تُغني بصوت " صـريرها " الخـشبي ،
وسربٌ من الغـراب يـناظرُ خـطوات دروسـيلا كـلما اقتــربت أكـثر فأكــثر ، والغيـوم تعتصر نفســها وتبـكي
فــوق رأسـها .
أسـقطت دروسيـلا صندوقها الخشبي أرضـاً . . وجـثت على ركبـتيها مـلوثةً فـستانها " بالطيـن المبـلول "
فـأخرجت مـنه " لـعبة راقصـة الـباليه البلاستيكية " الـممشوقة بـمـرونة وهي تلـوي ذراعيها نحـو الأعـلى .
فــتذكرت ما دار بـينها وبـين والـدها فـي أمسـيةِ وفـاته . . عـندما أشـار إلـيها بأن تحضر اللعبة هذه من الـرفّ الـقابع
فـوق المدفـأة ، فأحضرت اللعبة وهي في حـالة تعـجُب واستفهام لهذا الطلب .
عـندها أدار والدها مـفتاح اللعبة قـائلاً : يا ابنـتي . . مـا هذه !
ردّت دروسـيلا بتيـقُن : مـجرد لـعبة . !
ابـتسم والدها ثم أردفَ يقول : هنـالك فرقٌ كبـير بـين أن تكـوني أنتِ اللـعبة . وبـين أن تـكوني أنتِ من يقـرر متى
تـحركين هـذه اللـعبة .
قـالت دروسـيلا مستغربةً : ومـا أنـا الآن !
أجـاب والـدها : أنـت مجرد " بـرغي " داخــل اللعبة . . لـكنكِ ستــكونين المنتصــرة عنـدما تصرّين عـلى ما أنـت عليه
وتــكون خيـوط اللـعبة بـين يديـكِ ، أنــتِ من تســيطرين عـلى مسـاركِ وليست الحـياة بمــسيطرة !!
ومــع لــمعة بـرقٍ أخرى . . اسـتيقظت دروســيلا من رحـلتها إلى عالـم الذكـريات ، ثـم أدارت محرك " الراقصـة "
و وضعت القــاعدة في الطين ، وأخـذت اللعبة تـرقصُ وتـدورُ عـلى ألحـانها الموسيـقية وزخّـات المطر تـزيد
أكــثر فأكــثر .
والآن ترقصُ اللعبة على أصوات الألم . . أصوات الألم التي لا يسمعها إلا المتـألم بـذاته ولا أحد غيـره .
تـرقصُ عــلى تــمتمة دروســيلا / لــن أكــون البــرغي . . سأكــون أنا المسيــطرة /
وســيلٌ مـن الدمـاء يســيل بخفةٍ على فســتان دروسيــلا بــعد أن طعنت نفــسها عدةَ طعـنات متـلاحقة .
لـكن الآن . . وضــعت دروســيلا رأســها إلـى جانــب اللعبة ، وخلــيط من الدموع والدماء تسـقي التـراب الـندي
وابـتسامةٌ تؤنــس شــحوب المــكان . . وأصداء جملــة / لــن أكــون البــرغي / تصدحُ فــي فــناء القصــر .
إلــى أن توقفت دروســيلا عن الابتسام . . وتــوقفت اللعــبة عــن الرقص .